نور مصالحة: مسؤولية إسرائيل الأخلاقية نحو اللاجئين الفلسطينيين

اوراق حقائق
تشرين الثاني 12، 2015

1. مفهوم "الترحيل"/الطرد في الاتجاه السائد للصهيونية، 1882 – 1948

يُقدّم التأريخ الصهيوني الكثير من الأدلّة على أنه منذ بداية الاستعمار الصهيوني في فلسطين كان موقف غالبية المجموعات الصهيونية نحو السكان العرب الأصليين يتراوح من اللامبالاة والاستعلاء إلى إنكار تام لحقوقهم الوطنية واجتثاهم وترحيلهم إلى الدول المجاورة. شخصيات كبيرة مثل إسرائيل زانغويل، وهو كاتب إنجليزي – يهودي مرموق وصديق مقرّب لثيودور هرتسل (مؤسس الصهيونية السياسية) وأحد المروجين لفكرة الترحيل، عمل بلا هوادة لنشر شعار أن فلسطين هي "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".

ما يكشف لنا المزيد من المعلومات هي الحكاية التي رواها وايزمان (رئيس إسرائيل الأول) لآرثر روبن، مدير دائرة الاستعمار في الوكالة اليهودية حول كيفية حصول (وايزمان) على وعد بلفور في عام 1917. عندما وجّه روبن السؤال لوايزمان عن رأيه في السكان الفلسطينيين الأصليين، قال وايزمان: "قال لنا البريطانيون أن هناك نحو مئة ألف من السود الذين ليست لهم قيمة". بعد مرور بضع سنوات على حصول الحركة الصهيونية على وعد بلفور، كتب زانغويل: "إذا كان اللورد شافتزبري غير دقيق حرفياً في وصف فلسطين كبلد بلا شعب، فقد كان محقاً من ناحية أساسية لأنه ليس هناك شعب عربي يعيش بانسجام حميم مع الأرض أو يستخدم مواردها بكفاءة. ما يوجد هو في أفضل الأحوال مخيمات عربية". ذات الأسطورة عن "الأرض الخالية" ("أرض بلا شعب لشعب بلا أرض") تسري في الجهاز التعليمي للدولة الصهيونية وهناك وجود قوي لها في كتب الأطفال.

كانت هجرة اللاجئين الفلسطينيين في عام 1948 ذروة أكثر من نصف قرن من الجهود الصهيونية والخطط السرية والقوة الوحشية. منذ بدء المشروع الصهيوني لتأسيس الوطن القومي اليهودي في فلسطين، واجه الصهاينة ما أسموه "المشكلة العربية" – أي حقيقة أن فلسطين فيها أناس يقطنونها. كان أحد الحلول المقترحة لتلك المشكلة هو "الترحيل" – أي النقل المنظّم للسكان الفلسطينيين إلى الأراضي العربية المجاورة. "الترحيل" هي العبارة التي يستخدمها دائماً اليهود للإشارة إلى ما يُسمّى حالياً "التطهير العرقي". في الفترة التي سبقت عام 1948، تبنّى مفهوم الترحيل المستوى الأعلى في القيادة السياسية، بما في ذلك كافة مؤسسي إسرائيل الذين مثّلوا المستوى السياسي بكامله تقريباً.

تُظهر الأدلة المتوفرة (بناءاً على وثائق الأرشيف الإسرائيلي) أن "الثلاثة الكبار": وايزمان، ديفيد بن غوريون (أول رئيس وزراء ووزير الدفاع) وموسى شاريت (أول وزير خارجية وثاني رئيس وزراء) صادقوا على "الترحيل" في الفترة بين 1937 و1948 وتوقّعوا "خِلو الأرض" في عام 1948.
لعل المناصر الأكثر تنظيماً، وتطرفاً وإصراراً على "الترحيل القسري" كان يوسف ويتز، مدير دائرة الاستعمار في الصندوق القومي اليهودي ورئيس لجنة الترحيل الرسمية لعام 1948 التابعة للحكومة الإسرائيلية. كان ويتز المسئول المباشر عن شراء الأراضي للحركة الصهيونية لعدة عقود. معرفته الكبيرة ومشاركته في شراء الأراضي جعلته على إطّلاع واسع على القيود المتعلقة بها. في فترة متأخرة من عام 1947 وبعد نصف قرن من الجهود الحثيثة، بلغ مجموع ما يملكه الصندوق القومي اليهودي مجرّد 3.5% من مساحة أراضي فلسطين.

هناك ملخّص لمعتقدات ويتز السياسية في يومياته بتاريخ 20 كانون أول 1940: "بين أنفسنا يجب أن يكون واضحاً أنه لا يوجد متّسع للشعبين في هذه الأرض. ليس هناك مجال للتوصّل إلى تسوية حول هذه النقطة... شراء الأراضي... سوف لن يجلب لنا الدولة؛ ... الطريقة الوحيدة هي ترحيل العرب من هنا إلى الدول المجاورة".

منذ منتصف الثلاثينيات وبعدها، أصبح حل الترحيل مركزياً في تقييمات الوكالة اليهودية. بين عام 1937 وعام 1948، جرت محادثات سريّة مكثّفة في الهيئات العليا للحركة الصهيونية حول ترحيل العرب.

شُكّلت العديد من "لجان الترحيل" السرية الرسمية وغير الرسمية. كانت هناك مصادقة عامّة على الترحيل (بأشكال مختلفة: طوعاً، متفق عليها وقسراً) من أجل تحقيق هدفين رئيسيين: أ) إفراغ الأرض للمستوطنين اليهود والمهاجرين المحتملين؛ ب) وتأسيس دولة يهودية متجانسة.

2. الهجرة في عام 1948: سياسات الطرد الموثّقة جيداً في عام 1948 – التاريخ يتحدّث بنفسه

التحريفيون الإسرائيليون/المؤرخون الجدد (بما فيهم بيني موريس، ايلان بابي، أفي شليم، سيمحا فلابان، توم سيغيف، أوري ميلشتاين) وكذلك المؤرخون والباحثون الفلسطينيون (بمن فيهم نور مصالحة، وليد خالدي، شريف كناعنة، نافذ نزّال) وثّقوا بصورة مكثّفة على مدى الخمسة عشر عاماً الماضية عمليات طرد الفلسطينيين في عام 1948. تُبرز الأدلّة المتوفرة أن إخلاء ثلاثة أحياء من مليون فلسطيني في عام 1948 يمكن أن يُعزى فقط لسياسات الترحيل والطرد والمذابح الصهيونية التي تم ارتكابها.

يوضح المؤرخ العسكري الإسرائيلي أرييه يتسحاقي أن القوات اليهودية ارتكبت نحو عشرة مذابح رئيسية في عام 1948-1949 خلال الهجوم العسكري للقوات اليهودية حيث سقط في كل مذبحة أكثر من خمسون ضحية، إضافة إلى حدوث حوالي مئة مذبحة على مستوى أصغر (لأفراد أو مجموعات صغيرة).

وفقاً لما قاله يتسحاقي، كان لهذه المذابح (الكبيرة والصغيرة) أثراً مدمّراً على السكان الفلسطينيين حيث عجّلت بحدوث الهجرة العربية. كما قال يتسحاقي أن أعمال القتل حدثت في كل قرية تقريباً. من الأمثلة على المذابح وأعمال الطرد التي حدثت في عام 1948 ما يلي:
مذبحة دير ياسين: شهدت دير ياسين أسوأ مذبحة ارتكبت ضد المدنيين الفلسطينيين في عام 1948. قُتل في 9 نيسان 1948 أكثر من 250 قروياً غير مسلّح، بما في ذلك نساء وعجائز وأطفال. لا يجد الكتّاب الإسرائيليين المحدثين غضاضة في الاعتراف بمذبحة دير ياسين وأثرها في تعجيل الهجرة.
طرد سكان اللد والرملة بقوة السلاح: في 12-13 تموز 1948 طُرد أكثر من 60.000 فلسطيني من البلدتين التوأم بقوة السلاح (شارك بصورة مباشرة في عمليات الطرد هذه بن غوريون وثلاثة من كبار ضبّاط الجيش هم: ييغال ألون، اسحق رابين، وموشيه ديان). وصف شاهد إسرائيلي ما حدث بقوله: صف اللاجئين، الذي بدأ بالأجهزة والأثاث الذي [تخلو] عنه، انتهى بجثث لرجال ونساء وأطفال...".

مذبحة الدوايمة: كانت الدوايمة في عام 1948 قرية كبيرة جداً يبلغ عدد سكّانها نحو 3500 نسمة تقع على التلال الغربية للخليل. كما هو حال دير ياسين، كانت الدوايمة غير مسلحة. تمّت السيطرة عليها في 29 تشرين أول 1948 من دون حصول مواجهات. نُفّذت المذابح بحق 80-100 قروي في نهاية تشرين أول 1948، ليس في خضم المعارك ولكن بعد انتصار الجيش الإسرائيلي في الحرب. تُشير دلائل عديدة إلى ارتكاب المذابح داخل وحول القرية، بما في ذلك في الجامع وفي المغارة المجاورة حيث تم نسف المنازل التي كان داخلها العجائز، كما كانت هناك حوادث عديدة لإطلاق النار على النساء واغتصابهم.

3. الفترة التي تلت قيام دولة إسرائيل

منذ عام 1949، رفضت إسرائيل باستمرار عودة لاجئي عام 1948 إلى منازلهم وقراهم؛ كما رفضت دائماً قبول المسؤولية عن اللاجئين واعتبرتهم مسؤولية الدول العربية التي يقطنون فيها. لا تُريد إسرائيل عودة اللاجئين تحت أي ظرف لأنهم أرادوا توطين المهاجرين اليهود في أراضيهم وقراهم. ولم يرغبوا بعودة السكان العرب إلى وطنهم لأن ذلك سيثير التساؤل حول الصفة الصهيونية – اليهودية لدولة إسرائيل وسيعمل على تقويضها ديمغرافياً.

أحد الشعارات الرئيسية التي كان يروّج لها كبار مسئولي وزارة الخارجية الإسرائيلية في الخمسينيات هو: "إذا لم تستطع حلّها، إعمل على تفكيكها"، أي إذا لم تستطع حل قضية اللاجئين الفلسطينيين كقضية سياسية، يمكنك أن تُحاول "تفكيكها" وتشتيت اللاجئين عبر الوسائل الاقتصادية ومشاريع التوظيف. تمّ في تشرين أول 1949 إعادة تشكيل لجنة الترحيل التابعة للحكومة الإسرائيلية لتصبح لجنة التعويضات حيث قدّمت توصياتها بعد ذلك بستة شهور. أوصت هذه اللجنة بأنه في سياق حل كلّي للصراع العربي – الإسرائيلي، يجب أن تدفع إسرائيل دفعة تعويضات واحدة عن الممتلكات الخاصّة باللاجئين الموجودة في القرى، والممتلكات غير المتضرّرة في المدن وعن حسابات البنوك. أوصت اللجنة بعدم دفع تعويضات عن الحصة العربية في أراضي الدولة وعدم تقديم دفعات تعويض فردية للاجئين كأفراد.

حاولت الحكومة الإسرائيلية مرة أخرى في عام 1953 وضع سياسة لإعادة ممتلكات اللاجئين إلى أصحابها بتعيين لجنة جديدة في حزيران. قُدّمت توصيات اللجنة في كانون أول 1953 التي اقترحت مساهمة إسرائيل بمبلغ 100 مليون دولار كجزء من فاتورة التعويضات لصندوق دولي سيتم تأسيسه من أجل البدء بمشاريع إعادة توطين جماعية في الدول العربية. شجّع هذا الاستعداد للمساهمة بحصة في القيمة المالية للتعويضات الزيادة المتوقعة في سيولة النقد الأجنبي نتيجة لاتفاق إعادة التوطين مع ألمانيا الاتحادية الذي تم التوقيع عليه في أيلول 1952. كانت التقديرات الإسرائيلية المختلفة في ذلك الوقت للقيمة العالمية لمجموع ممتلكات اللاجئين الفلسطينيين المنقولة وغير المنقولة نحو 350 مليون دولار.

فيما يتعلّق بالأقلية الفلسطينية التي بقيت تحت السيطرة الإسرائيلية، لم يُغيّر قيام إسرائيل الوعود والأسس الصهيونية. في واقع الأمر فإن الأهداف الرئيسية للدولة الإسرائيلية، كما هي مُعرّفة في أيديولوجيتها الصهيونية، هي تحقيق آمال الغالبية اليهودية، وأولئك المهاجرين اليهود المأمولين بحيث يكون ذلك بصورة متكرّرة على حساب آمال الأقلية الفلسطينية. دعم أكثر زعماء إسرائيل تأثيراً، بمن فيهم بن غوريون، في الخمسينات العديد من المشاريع التي كانت تهدف إلى تخفيض أعداد الأقلية العربية بصورة أكبر. تحتوي أرشيفات الدولة الإسرائيلية في القدس على عشرات الملفات الرسمية التي تحوي معلومات مكثّفة حول سياسات إسرائيل تجاه الأقلية العربية، بما فيها ما يوصف عادة في إسرائيل "بترحيل السكّان". فرضت دولة إسرائيل على نحو عاجل حكومة عسكرية في المناطق التي تقطنها الأقلية العربية، وصادرت أكثر من نصف أراضي هؤلاء السكان غير اليهود، وانتهجت سياسات عديدة للاحتواء الديمغرافي، والسيطرة السياسية، والهيمنة الاقصائية والتمييز النظامي في كافة مجالات الحياة.

كان الأمن هو الهدف الرسمي لفرض الحكم العرفي وحكومة عسكرية على الأقلية العربية في إسرائيل. إلاّ أن إقامتها التي دامت حتى عام 1966 هدفت إلى خدمة عدد من الأهداف المعلنة والخفية. كان الهدف الأول هو منع عودة اللاجئين الفلسطينيين، أو "المتسللين" وفقاً للتعبير الإسرائيلي، إلى منازلهم. "أثناء ذلك، تم في بعض الأحيان أيضاً طرد العرب الآخرين الذين لم يتسلّلوا إلى البلد". كان الهدف الثاني هو إخلاء الأحياء والقرى العربية نصف الخالية وكذلك تلك التي لم يتركها سكّانها وترحيل هؤلاء السكّان إلى أقسام أخرى من البلد من أجل إسكان اليهود. كان الضحايا عرب إسرائيليون فقط في هذه المرة، وكثير منهم كانوا يحملون أوراق الإقامة الإسرائيلية. لكن لم تكتف السلطات الإسرائيلية بترحيل وطرد الأقلية العربية، حيث تم ارتكاب العديد من المذابح من قبل القوات العسكرية الإسرائيلية بعد مِضي فترة طويلة على انتهاء حرب عام 1948.

طرد سكان قرية المجدل إلى غزة: في صيف عام 1950، تم نقل 2700 نسمة ممّا تبقّى من سكان قرية المجدل العربية الجنوبية التي بلغ عدد سكّانها عشية الحرب 10.000 نسمة (تُسمّى اليوم أشكلون) إلى حدود قطاع غزة خلال فترة أسابيع.

طرد بدو النقب 1949-1959: كانت النقب، بحسب خطة الأمم المتحدة للتقسيم لعام 1947، والتي أضيفت إلى المناطق التي خصّصت للدولة العربية الفلسطينية، محط اهتمام مبكّر لنشاطات الطرد. بعد أن تم احتلالها، أراد رئيس الوزراء بن غوريون إسكان اليهود في النقب. يستشهد بيني موريس بتقرير لوزارة الخارجية الإسرائيلية يوضح أنه خلال عام 1949-1953 "طردت إسرائيل ما يقرب من 17000 من بدو النقب الذين لم يكونوا كلهم متسلّلين كما يُزعم".

مذبحة قبيلة العزازمة: في آذار 1955، تعرّض أفراد قبيلة العزازمة، بما فيهم النساء والأطفال، لمذبحة على أيدي وحدة الجيش الإسرائيلي سيئة الذكر "وحدة 101" التي شكّلها رئيس الأركان موشيه ديان في عام 1953. اعتُبِرت الوحدة 101، التي قادها أرئيل شارون ورعاها على نحو خاص بن غوريون، "حربة" الجيش ونفّذت العديد من الغارات ضد الأهداف العربية عبر الحدود.

مذبحة كفر قاسم: ارتكبت القوات الإسرائيلية هذه المذبحة الأسوأ تنفيذاً لخطة طرد "العرب الإسرائيليين" الأكثر درامية باسم "عملية هافارفيريت" السرية. جوهر هذه الخطة السرية، الذي كُشف النقاب عنه لأول مرة في 25 تشرين أول 1991 في صحيفة حداشوت العبرية، هو طرد السكان العرب من "المثلث الصغير" (أكثر من 40000 مواطن عربي إسرائيلي) إلى الأردن. أكّدت صحيفة حداشوت أن المذبحة نُفّذت وفقاً لخطة عسكرية وضعها الجيش الإسرائيلي عشية حرب عام 1956.

في 29 تشرين أول 1956، وهو اليوم الذي شنّ فيه الجيش الإسرائيلي هجومه على مصر في الجنوب، نفّذت شرطة الحدود الإسرائيلية مذبحة كبيرة في القرية العربية الإسرائيلية كفر قاسم في المثلث الصغير الذي يقع على حدود الضفة الغربية. كان السبب الظاهري لهذه المذبحة الموثّقة جيداً هو اختراق حظر التجوال من قبل الضحايا الذين لم يكن لديهم علم بفرض حظر التجوال على قريتهم وعلى التجمعات العربية المجاورة.

قال شادمي، قائد الكتيبة المسؤول عن فرض حظر التجوال، لمالينكي أن يكون حظر التجوال مشدّداً جداً. عندما سأل مالينكي عمّا سيحصل للشخص العائد من عمله خارج القرية، من دون أن يكون لديه علم بحظر التجوال ويقابل وحدات شرطة الحدود على مدخل القرية، أجاب شادمي: "لا أريد عواطف رقيقة"، فكان "في ذلك ما يكفي ليسيء التصرف على نحو كبير". كان هناك فقط 30 دقيقة بين الإعلان عن حظر التجوال والتنفيذ الصارم له، ولم يتم إعطاء القرويين أي سبب للمعاملة التي تلقّوها. خلال ساعة من فرض حظر التجوال بين الساعة الخامسة والسادسة مساءاً، قُتل 47 قروياً وهم عائدون من أعمالهم. كان هناك سبعة أولاد وبنات وتسع نساء تتراوح أعمارهم من 18-61 سنة ضمن ثلاثٌ وأربعين شخصاً قُتلوا على المدخل الغربي لكفر قاسم. كانت "عملية هافارفيريت" خطة طوارئ وُضعت بتوجيه من ديان. صُمّمت هذه الخطة العسكرية عشية حرب سيناء عام 1956 لإخلاء السكان العرب من المثلث الصغير بالقوة في إطار حرب محتملة مع الأردن. في سياق الاستعداد لحرب عام 1956، وُضعت "عملية هافارفيريت" جانباً حيث تم إلغاء تطبيقها على أعلى المستويات بالتزامن مع إلغاء خطط الحرب ضد الأردن. لكن من غير الواضح متى أعيد العمل بعملية هافارفيريت ومتى استلم مالينكي الأمر بإلغاء استبعادها. بحسب الظروف، شهد مالينكي فيما بعد في محاكمة شادمي: "عملية هافارفيريت كانت الأكثر ملائمة لأن إلغاء وضع الحرب في القطاع الأردني لم يكن مؤكداً. قال شادمي أن دورنا هو دفاعي، لكن هناك متّسع للتغيير ... لو كان شادمي يقول أن سياسة [الناس] في المستويات العليا لم تكن إلحاق الأذى بالأقلية العربية، وأن العرب يجب أن يُعاملوا كمواطنين في الدولة، لكنت ألغيت أوامري على الفور. لكن لم يكن هناك أي أثر لهذه الكلمات [في أوامر شادمي]".

طرد بدو الجليل (على يد اسحق رابين): عملية هافارفيريت، مع أنها أدّت إلى مذبحة كفر قاسم السيئة الذكر، لم يتم أبداً تطبيقها بالكامل. لم يمنح الأردن لإسرائيل أي ذريعة للتطبيق الكامل. لكن يجب النظر إلى ذلك كجزء من توجّه عام في المؤسسة السياسية – العسكرية في إسرائيل لاستغلال حرب عام 1956 من أجل تنفيذ عمليات طرد واسعة للمجتمعات العربية – الإسرائيلية، خصوصاً تلك المقيمة بمحاذاة الحدود وذلك باسم الأمن. في 30 تشرين أول 1956 وبعد مِضي يوم واحد فقط على مذبحة كفر قاسم، استغل اسحق رابين، الذي كان يتولّى وقتها القيادة الشمالية، الهجوم ضد مصر في الجنوب لتنفيذ عمليات طرد جماعي للعرب الإسرائيليين عبر الحدود الشمالية إلى سوريا. هذه الحلقة التي لم يُعرف عنها الكثير والتي كشفها رابين نفسه في "كتاب الخدمة" تضمّنت طرد 2000-5000 مواطن من قريتي قراد الغنمة وقراد البقرة اللتين تقعان إلى الجنوب من بحيرة الحولة إلى سوريا.

4. احتلال قطاع غزة وسيناء في عام 1956-1957

مرة أخرى لم تُضيّع المؤسسة العسكرية الإسرائيلية الفرصة لتخفيض أعداد الأقلية العربية، سواء عن طريق الطرد أو ارتكاب المذابح، أثناء احتلالها لسيناء وقطاع غزة.

مذبحتي خان يونس ورفح في 3 و12 كانون ثاني 1956:
وفقاً لسرد في صحيفة نيويورك تايمز بتاريخ 2 كانون أول 1956، "قال مسئولو الهدنة التابعون للأمم المتحدة أن معلوماتهم تُشير إلى أنه تم قتل 400 إلى 500 شخص في خان يونس خلال الأيام الأولى للاحتلال، إضافة إلى 700 في رفح و30-50 في مدينة غزة".

مذابح أخرى في سيناء، تشرين ثاني 1956: في 4 آب 1955، كشفت صحيفة معاريف للمرة الأولى بعض التفاصيل عن المذابح الواسعة التي حدثت. في أواخر تشرين أول وأوائل تشرين ثاني 1956، تم إصدار الأوامر التي أدّت إلى قتل نحو 273 سجيناً مصرياً غير مسلّح خلال حرب سيناء. تضمّن هذا العدد 49 مصرياً مدنياً من عمّال الطرق الذين كانوا في المكان الخطأ في الوقت الخطأ.

5. هجرة عام 1967: لماذا غادر الفلسطينيون؟

تم طرد ما مجموعه 320.000 فلسطيني من الضفة الغربية وغزة أثناء حرب عام 1967 أو بعدها بوقت قصير.

لجأت الحكومة الإسرائيلية، ووزارة الدفاع التي يترأسها ديان، والموساد (المخابرات الإسرائيلية الخارجية) إلى القيام بأعمال "ترحيل" سرية واسعة بعد حرب حزيران. هذا الأسلوب في أعمال الترحيل السرية، إضافة إلى النقاش حول الترحيل على مستوى الوزارة، تم الكشف عنه تدريجاً من قبل الصحفيين والباحثين والسياسيين الإسرائيليين. بعد مِضي أقل من أسبوعين على الانتصار الاسرائيلي في حرب حزيران 1967، عقدت حكومة أشكول عدة اجتماعات سرية من 15 إلى 19 حزيران 1967 لبحث القضية الأساسية:

ما العمل بشأن "المشكلة الديمغرافية" - حقيقة أن معظم سكان الأراضي العرب، بعكس عام 1948، بقوا في أماكنهم. النسخة الرسمية للاجتماع ما زالت سرية. نتج عن النقاشات التي جرت في حزيران وضع خطة ترحيل "طوعي" صُمّمت "لتخفيض أعداد" سكّان الضفة الغربية بما في ذلك في البلدة القديمة للقدس وغزة، والتي أصبحت تُعرف فيما بعد بخطة موشيه ديان.

إخلاء وتدمير حي المغاربة (في البلدة القديمة للقدس): بدأت حرب حزيران 1967 فجأة وانتهت بسرعة. في كتابه الأخير الأعداء المقرّبون (1995) قال ميرون بينفينيستي، نائب سابق لرئيس بلدية القدس: "بعد انتهاء حرب عام 1967، جرت محاولات لتطبيق ترحيل قسري للسكّان. تم طرد سكّان المدن والقرى في المناطق القريبة من خط وقف النار من منازلهم ودُمّرت مجتمعاتهم؛ وعرضت السلطات الإسرائيلية "حوافز مالية" ونقل مجّاني للفلسطينيين الراغبين في المغادرة....". كان من بين أوائل الذين تم إخلائهم سكّان حي المغاربة في البلدة القديمة للقدس. حيث تم إخلائهم من منازلهم في 11 حزيران بعد يومين من احتلال الجيش الإسرائيلي للقدس الشرقية بعد إعطائهم إنذار مدته ثلاث ساعات. في تعليقه على أولئك الذين كانوا مسئولين عن هذا الإخلاء، قال عوزي بينزيمان من صحيفة هآريتس: "أولئك الذين ترأسوا تدمير الحي [العربي] لم يكن لعملهم هذا [اعتبارات] أمنية ولم يكن هذا العمل مجرّد تخطيط للمدينة. كان باعثهم في تلك الليلة [10-11 حزيران] هو شعور روحي: فمن وجهة نظرهم كانوا ممثّلين للشعب اليهودي أتوا لتأكيد السيادة [اليهودية] على أكثر الأماكن قُدسية لديه....... أمّا مصير 135 عائلة عربية كانوا ضحايا لهذه الرغبات فلم يكن يهمّهم". كما تم إخلاء أكثر من 4000 فلسطيني من الحي اليهودي في البلدة القديمة لكي يُعاد بناء حي يهودي مُوسّع جداً يقطنه اليهود فقط ويُستبعد منه سكّانه العرب السابقين.

إخلاء بيت نوبا، عمواس، يالو، حبلة، جفتلك، بيت مرسم، بيت عوّا والبرج: كان من بين أوائل المغادرين أيضاً سكّان القرى التاريخية الثلاث عمواس، يالو وبيت نوبا والتي تقع بالقرب من الخط الأخضر في منطقة اللطرون في شمال غرب القدس. بلغ عدد هؤلاء القرويين الذين تم إخلائهم وذريتهم في عام 1987 وعاشوا في عمّان حوالي 11.000 نسمة، و2000 نسمة عاشوا في الضفة الغربية بالقرب من رام الله.

بعد مِضي عامين على تدمير قُرى اللطرون في عام 1969، شعر ديان بضرورة تذكير رفاقه، بمن فيهم أولئك الذين عارضوا المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية وفي منطقة رفح في شمال سيناء، بما لم يعرفه أبداً بعضهم من الجيل الصغير. في خطاب له في معهد التخنيون بحيفا في عام 1969 قال ديان: "جئنا إلى هنا إلى هذا البلد، الذي استوطنه العرب، ونحن نبني دولة يهودية.... حيث نشأت القرى اليهودية مكان القرى العربية. حتّى أنك لا تعرف أسماء [هذه القرى]، وأنا لا ألومك لأن كتب الجغرافيا لم تعد موجودة. ليس فقط أن هذه الكتب لم تعد موجودة، بل إن القرى العربية ليست موجودة أيضاً. نشأت نهلال [مستوطنة ديان الخاصّة] مكان مهلول، غيفات [كيبوتس] مكان جيبتا، ساريد [كيبوتس] مكان هنيفيس وكفار-يهوشوع مكان تل شامان. ليس هناك مكان واحد مبني في هذا البلد لم يكن فيه سكّان عرب سابقون".

عملية حاييم هيرتزوغ، شلومو لاهاط وعوزي ناركيس، حزيران 1967: "ترحيل 100.000 شخص من دون أن يقول أحد كلمة": كان حاييم هيرتزوغ الحاكم العسكري الأول للضفة الغربية بعد حرب حزيران 1967. في حوار عام حول القضية الفلسطينية عُقد في القدس بتاريخ 3 نيسان 1970، لم يتوقّف هذا الحاكم العسكري الأول للضفة الغربية والشخص المؤثّر في حزب العمل عن الكشف بصراحة عن رغبات قلبه: "لو توفّرت لدينا الإمكانية لاستبعاد مليون عربي [من الأراضي]، لكان هذا هو الأفضل". لكن وبعد مِضي 21 سنة وفي أوائل تشرين ثاني 1991، بعد أيام على بداية مؤتمر مدريد للسلام، كشف الرئيس هيرتزوغ بفخر عن أحد الأسرار الإسرائيلية: كأول حاكم عسكري للضفة الغربية نفّذ بنجاح بالتعاون مع شلومو لاهاط قائد منطقة القدس عملية ترحيل 200.000 فلسطيني من الضفة الغربية مباشرة بعد الحرب.

نتج عن عملية الترحيل هذه ترحيل 100.000 [فلسطيني إلى الأردن] من دون أن يقول أحد كلمة. وصف جندي إسرائيلي سابق النواحي "الطوعية" "والإنسانية" لهذه العملية في مقابلة مع صحيفة كول هعير في تشرين ثاني 1991: "كان عملي أن آخذ إبهام [كل فلسطيني] وأضع طرفه في الحبر ومن ثم البصم على بيان المغادرة.... في كل يوم كانت عشرات الباصات تصل. بدا لي في بعض الأيام أن الآلاف يُغادرون.... مع أنه كان هناك من يغادر طواعية، لكن كثيرين تم ببساطة طردهم..... أجبرناهم على التوقيع..... عندما رفض أحدهم إعطائي يده [للبصم]، كانوا يأتون ويضربونه ضرباً مبرحاً. بعدها كنت آخذ إبهامه بالقوة وأضعه في الحبر وأطبع بصمته. بهذه الطريقة تم التخلّص منهم.... ليس لدي شك أن عشرات الآلاف من الرجال طُردوا رغماً عنهم".
إخلاء مخيمات اللاجئين الثلاثة الكبرى بالقرب من أريحا: عين السلطان، النويعمة وعبقة جبر: بين عامي 1949 و1967 كان يُسيطر على السكان الفلسطينيين في وادي الأردن الغربي ثلاثة مخيمات كبيرة للاجئين تُحيط بمدينة أريحا: عين السلطان، النويعمة وعقبة جبر. طُرد سكان هذه المخيمات من إسرائيل الحالية في عام 1948-1949. خلال حرب عام 1967 أو بعدها بوقت قصير، هرب أو طُرد كافة سكان هذه المخيمات تقريباً، حوالي 50.000 شخص، إلى الضفة الشرقية، مع أكثر من 50% من السكان الريفيين الأصليين في وادي الأردن ممّا خفّض مجموع سكّان المنطقة بنسبة 88% ليبلغ 10.778 نسمة.

استمرت إسرائيل في الادّعاء بأن هجرة اللاجئين الفلسطينيين كانت إحدى تكتيكات الحرب التي اتبعها العرب الذين بدأوا بالحرب ضد اليهود في فلسطين. كما نفت أية مسؤولية إسرائيلية عن الهجرة العربية، وأنكرت في حقيقة الأمر الدور الذي لعبه مسؤوليها. تكشف الأبحاث التي قام بها المؤرخون الإسرائيليون والعرب الطرد المبيّت وتنفيذ المذابح بحق العرب الذي نفّذته إسرائيل من أجل تأسيس دولة متجانسة عرقياً. ابتدع الزعماء الصهاينة سياسة الترحيل وطبّقوها منذ المراحل الأولى للصهيونية وواصلو تطبيقها بعد قيام دولة إسرائيل. حتّى اليوم، يمكننا أن نرى سياسة الترحيل في موقف إسرائيل تجاه العرب في القدس الشرقية.

Back to top